“زمن القلوب” قصة قصيرة بقلم: شمس الأصيل .. مسابقة كورونا الأمل

كتبت شمس الأصيل

حالة طوارئ تعم أرجاء المستشفى، الهلع يغزو القلوب فيرتسم على الوجوه؛ الأطباء مستنفرون، الممرضات تركضن في جميع الاتجهات كخلية نحل ترتدي البياض. خرج ''عمر'' من غرفة أحد المرضى بعد أن قام بمتابعة حالته، متوجها إلى غرفة التعقيم كي يستعد لأخذ قسط من الراحة، فهو لم يتوقف عن العمل منذ البارحة، لكن نداء الممرضة باسمه وإعلانها عن وصول حالة أخرى جعله يغير مساره في لمح البصر، وقف مشلول الفكر من شدة الصدمة، لا يصدق ما تراه عيناه، عجز عن التقدم والإتيان بأي حركة، حتى انتشله صوت الممرضة الذي يحثه على الكشف على المريض الذي تبدو حالته سيئة جدا، ليستجمع كل مابقي له من قوة مع إنسانيته ويباشر إجراءات العلاج المعتادة.

خرج من غرفة الإنعاش بعد وقت لينهار على أقرب كرسي، عائدا بخياله إلى ما يقرب الشهرين من الزمن؛ في تلك الليلة آوى إلى فراشه وفي قلبه سعادة الأم بوليدها بعد عقم، فغدا سيطلب يد فتاة أحلامه التي كبر حبها في قلبه بقدر وحدته التي يعيشها منذ غادر أبواه حياة الأرض إلى حياة السماء، بعد خيالات كثيرة عن السيناريوهات المحتملة التي ستخلص إليها مقابلته مع والدها، داهم النوم أجفانه ليمنحه بعض السلام.
استيقظ صباحا يحذوه الأمل في أن تزور السعادة جنبات بيته الحزين منذ سنين، وأن يعود الدفء إلى أحضانه، ابتسم وهو يرى طيفها بالمطبخ حين دخله لإعداد قهوته، نفض رأسه بقوة عند سماعه أصواتا تأتي من غرفة الأطفال، هامسا لنفسه:
-يبدو أنك أصبتني بالجنون يا أميرة القلب … فبعد أن سكن طيفك البيت بعد القلب والروح … ها أنا اليوم أسمع أصوات أطفالك!.
دخل ردهة البيت الفخم وهو في كامل أناقته، يرافقه أحد العمال، استقبله والدها ببرود شديد، مشيرا له بالجلوس على الأريكة المقابلة له، تفصل بينهما طاولة صغيرة ملئت أوراقا وملفات. ساد الصمت المتوتر المكان بعد عودة الأخير للانغماس بتلك الأوراق اللعينة. عاد ذات العامل بعد لحظات يقدم الضيافة، ليقول والدها أخيرا:
-ذكرني باسمك.
-عمر … اسمي عمر.
-عمر ماذا؟!
ارتبك الأخير من طريقته و سؤاله ليرد بحرج:
-عمر الصياد.
-أخبرني كيف تعرف ابنتي؟ … وما هي مؤهلاتك؟
-أول ما عرفتها في الجامعة … هي صديقة أخت صديقي المقرب … كنت أراهما معا دائما … وبعدها عرفتها في المستشفى عندما كانت ترافق زيارات الجمعية التي تنخرط بها للمرضى.
-إذن أنت طبيب على ما يبدو! … أخبرني ماذا تملك لتقدمه لابنتي؟!
ازدرد عمر ريقه مجيبا:
-أنا طبيب حديث عهد … يعني لدي دخل مستقر … كما لدي بيت والدي الذي أعيش فيه و…
-ماذا تملك لتقدمه لها؟!

  • أملك قلبا حافظا لكتاب الله، عامرا بتقواه … قد سكنه حبها … فلن يضيمها بإذن الله يوما.
    وضع الآخر رجلا فوق الأخرى، أشعل سيجارته الفخمة، ورد بسخرية مبطنة:
    -قلت: قلبا، وكتاب الله، وحبا؟
    هز رأسه بثقة وفخر كبيرين، فعلت قهقهة أرجاء المكان ثم سكنت عند صدوح رنين هاتف صاحبها الذي وقف بعد إنهاء المكالمة، ليقف معه عمر في ارتباك
    -اسمعني جيدا يا فتى … ابنتي سميتها ”أميرة” ، وأسكنتها بيوت الأميرات كما ترى، وعاشت حياة الأميرات … هي وحيدتي ولن أرمي بها لمستنقع الفقر، طلبك مرفوض … انتهت المقابلة.
    انصرف يحث الخطى من ذلك المكان الذي تحول فجأة إلى جحيم يخنق أنفاسه، قبل أن يوقفه نداء والدها الذي استطرد قائلا:
    -اسمع يا ”صياد” … إن أردت أن تصطاد حوتا كبيرا فعليك أن تقدم له طعما ملائما … وابنتي صيد كبير عليك.
    وقف خارج الباب يلتقط أنفاسه، ويلملم شتات كبريائه، عندما سمعها تعاتب والدها بصوتها الباكي الذي قطع نياط قلبه فركض يقطع الفناء في لحظات.
    عاد إلى واقعه، هرع إلى ملفه الطبي، أخذ منه رقم هاتفها، أتاه صوتها الضعيف بعد عدة محاولات، أخبرها عن حالة والدها وفهم أنه عائد من أحد البلدان الموبوءة، وقد قضى فترة في الحجر الصحي الاحترازي، قبل أن تثبت إصابته و تسوء حالته اليوم. طمأنها أنه سيشرف عليه وسيبذل كل ما في وسعه لعلاجه، مرت عدة أيام بنفس الوتيرة؛ يحادثها كل يوم ليطمئنها عن حالة والدها، يحرص على متابعته شخصيا رفقة كبار الأطباء، حتى تفاجأ بتدهور حالته ذات ليلة، مما جعل كل الأطباء يتنبأون بقرب أجله، لكنه لم يستطع إخبارها بذلك، كيف سيخبرها أنه سيرحل ويتركها وحيدة في هذه الحياة! .
    ظل متمسكا بالأمل؛ يقضي كل أوقات راحته بغرفته يتلو كتاب الله في ضراعة ويدعو الله بكل يقين، ثلاثة أيام متتالية على هذه الحال كانت كافية لحدوث المعجزة، فعاد جسده للاستجابة للعلاج مجددا. تحسنت حالته بعدها في مدة وجيزة، اختفى خلالها عمر عن غرفته واكتفى بمتابعة أخباره عن بعد.
    في اليوم المقرر لخروج والدها من المستشفى، قابل عمر في الرواق، تقدم نحوه في تردد وخجل واضحين، خرج صوته بنبرة ندم ظاهرة:
    -سامحني يا ولدي … لقد كانت الغشاوة تغطي عيناي وقلبي متعلق بالدنيا … لكن بعد هذه المحنة اكتشفت أن هناك أمورا أهم بكثير من الأموال والقصور … اسمع يا ولدي … أنت طلبت يد ابنتي سابقا و قابلتك بالرفض، واليوم أنا من أطلب منك أن تأخذ بيد ابنتي من جنة الدنيا الفانية إلى جنات الخلود … فلن آمن عليها غيرك.
    لم يصدق عمر ما سمعته أذناه، فخر ساجدا لله وسط تكبيرات ومباركات زملائه، ليقف بعد لحظات وقد انهمرت دموعه فرحا ولسانه يلهج بالحمد لله، اقترب منه والدها باندفاع ليعانقه، لكنه ابتعد عنه في سرعة قائلا:
    -لا مصافحة ولا عناق في زمن الكورونا يا عمي.
    -صدقت يا ولدي … فاليوم زمن عناق القلوب.
    تمت بحمد الله.

مسابقة كورونا الأمل

إبداعات عائلة اسكرايب

نُشر بواسطة اسكرايب للنشر والتوزيع

دار اسكرايب للنشر والتوزيع، دار نشر مصرية، عضو اتحاد الناشرين المصريين، ‏تمتلك اسكرايب خطة نشر ومشاركات في المعارض الدولية والمحلية ترضي الكاتب ‏العربي. تهتم اسكرايب بالترجمات والأدب العالمي، والمحتوى الذي يساعد على تنمية ‏مهارات وقدرات الشباب العربي، من علوم ودراسات متنوعة‎.‎ وقد وصلت المجموعة القصصية "كأنه هو"، للكاتب البحريني "هشام النهَّام"، الصادرة ‏عن دار اسكرايب للنشر والتوزيع، إلى القائمة الطويلة لجائزة الملتقى للقصة القصيرة ‏بالكويت عام 2023‏

تصميم موقع كهذا باستخدام ووردبريس.كوم
ابدأ