“عازف سيمفونية الخلود” تكتبها “نوادر إبراهيم” برعاية اسكرايب للنشر والتوزيع

كتبت نوادر إبراهيم:

ذلك المحظوظ يتناول فطاره الآن، ربما يفكر بي كلما مدَّ يده على الطبق، يبتسم كأنه شبه طعم الملح بطعم قُبلتنا الأولى، مالحة كما الحياة والطرقات؛ ذلك الغريب يتذكرني الآن، يذكر لقاء الصدفة والصورة، كلمات الإعجاب، بعثرات الحديث الأول التى جعلته كمَنْ سحرته الخمرة فذهبت بأسراره بين السماوات، احتلت غيوم الخير، صهرتها فأمطرت سوادًا على أرضٍ بُور، كان سكانها ينتظرون الأمل، فخابت عيون الرجاء.

لم يتوقعوا أن كرم السماء سيهطل كلعنةٍ عليهم، هجرتهم الراحة فهاجروا كلهم إلى حيث العيش الرغد إلا رجلًا أشعثًا، كان يعزف المزمارَ بشجنٍ بليغٍ، يجلس تحت ظل شجرة عتيقة يابسة منذ سنوات، صامدة رغم الخراب والتصحر حولها، تبدو غامضة ولا أحد يعرف سرها سوى عازف المزمار، الذي كلما عزف حزنه اهتزت في غرابة مخيفة، لكنها مبهجة بالنسبة للغريب الذي يحتضن ظلها، كأنها لبت نداءات رغباته المكبوته برقصة، كأنها استجابت لسحر مزماره الكئيب فأنشدت معه أعجوبة البوح والوجود، ذلك الوجود الذي يعادل تساؤل الخلود والمُلك، إلى أين تؤول أوهامنا؟ وإلى أي زمان تنتمي أرواحنا؟ كيف وُجد الهواء داخل رئاتنا؟ كيف وُجدنا نحن على هذه الأرض؟

هكذا ترجم الرجل موسيقى المزمار، هكذا عكس ظلمة عقله، وهكذا نحن نهرب من الإجابة رغم عِلمنا بها؛ وفي مليء بالغيوم في تلك الأرض المهجورة عاد أحد أصدقاء صديق الشجرة الميتة، ليتفقده ويقنعه بالذهاب معه إلى بر الحياة والهدوء، وجده كعادته يعزف في ثمالة وطرب، يهيم بأنفاسه إلى حد البلاهة، وقف الصديق بقربه لكنه لم يعره اهتمامًا أو بالأحرى كان لا يراه ولا يشعر بشيء، حتى رَبَتَّ على كتفه بغضب ففزع واقفًا متجهمًا، لم يرحب بصديقه بل وتضجر من قدومه قائلًا: عدتم لتزعجونني مجددًا! هل ستعودون جميعًا؟

هزَّ الصديق رأسه متحسرًا، مدَّ له مكتوبًا وغادره، كُتب على المكتوب: (حبيبتك التي تسلتقي عند الشجرة لن تعود، ومزمارك الحزين لن يجعل روحها تنتفض وتلوذ إليك، حتى دموعك التي هدرتها والتي ستهدرها لن تحي الشجرة كما كانت من أعوام؛ صدق يا صديقي أن الموتى لا يعودون، لكننا نحيا لنحياهم بكل تفاصيلهم داخلنا، وسنحيا لأجلهم، أعزف وأذرف دموعك لكن لا تنسى أن جميلتك تحت التراب تراك تبدو كعجوز منهزم، حاربته الحياة فأعلن استسلامه دون أن يحاول الوقوف).

فرغ من القراءة، صرخ بقوة، لطم وجهه، ثم تناول كأسًا من الماء، تنفس طويًلا ثم قال: آن الأوان لتمطر من جديد، وتنبت هذه الأرض، حان وقت الحياة ووقتي لأعزف سيمفونية الخلود التي ستعيد الحياة إلى شجرتي وأعود بها إلى عالمي الصاخب بالجنون والمغامرة، هكذا أنا كما كانت تراني حبيبتي.

إبداعات عائلة اسكرايب

نُشر بواسطة اسكرايب للنشر والتوزيع

دار اسكرايب للنشر والتوزيع، دار نشر مصرية، عضو اتحاد الناشرين المصريين، ‏تمتلك اسكرايب خطة نشر ومشاركات في المعارض الدولية والمحلية ترضي الكاتب ‏العربي. تهتم اسكرايب بالترجمات والأدب العالمي، والمحتوى الذي يساعد على تنمية ‏مهارات وقدرات الشباب العربي، من علوم ودراسات متنوعة‎.‎ وقد وصلت المجموعة القصصية "كأنه هو"، للكاتب البحريني "هشام النهَّام"، الصادرة ‏عن دار اسكرايب للنشر والتوزيع، إلى القائمة الطويلة لجائزة الملتقى للقصة القصيرة ‏بالكويت عام 2023‏

تصميم موقع كهذا باستخدام ووردبريس.كوم
ابدأ