“على متن سفينة” .. مع شيرين رضا وتحدي الملل

كتبت شيرين رضا:

من بين سحب الليل القاتمة، يتساقط الحزن على وجه يوسف كقطراتِ من الجمر تلتهم روحه، يجلس يقضي ساعاته الأخيرة يودع منزله الذي قضى فيها رحلة شبابه مع زوجته وأولاده الثلاثة. حتى أتى اليوم المشئوم لتصب الحياة عليه لعنتها فتسلبه كل ما شيده وتضمره تحت الثرى.

يشيع يوسف جنازة زوجته وأولاده وتصفعه الحياة بسلاسل من حزن، ليشبه طائر فقد كلا جناحيه وسط عاصفة هوجاء.
فيرحل ويترك خلفه بقايا الماضي، وينثر آخر ذكرى له بين جدرانه، ويعلن استسلامه كجندي ترك ساحة المعركة بعد أن فقد سلاحه.
حمل جعبة الأحزان على ظهره، وقلبه يعلن حداده، وتوجه نحو طريق يجهله، ينظر خلفه من حينِ لآخر لعل الحياة تهبه ما سلبته منه ذات يوم.
توجه يوسف نحو أحد مكاتب الرحلات ليبحث عن ملجأ له يأويه بعيدا عن تلك المقبرة التي أصبح يعيش فيها، فصعد فوق إحدى السفن جاهلا وجهته، مغمض العينين لا يرى سوى توابيت الموت وهي محملة بأجساد اشتاق لها، فيتوجه نحو غرفته يختلي بوحدته وألمه الصارخ معتكفا كمتعبد يخضع قلبه لصلاة الحزن.

وبعد يومين تحرر يوسف من قبضة وحدته وانتظر حتى أسدل الليل ستاره، وتسلل كلصِ هارب صاعدا أعلى سطح المركب باحثا عن زاوية بعيدا عن الأنظار.
ذهب ووقف أمام البحر يستحضر منه روحا تعيد له ذكرياته التي اغُتصبت منه عنوة
فتوجه نحو أحد المقاعد الخشبية، وجعل جسده يسترخى قليلا، ونظر للسماء التي كانت يسودها الظلام الحالك إلا من نجمة مضيئة كانت تداعب عينيه وكأنها تحادثه.
جلس يداعب الصمت بأنفاس سيجارته الذي تكثف حوله بكثرة وكأن عاصفة ضبابية غيمت عليه ليطمس داخلها كل شيء.

وأثناء حديثه مع هذا الصمت قطع خلوته صوت خطى أقدام سريعة تهرول من جانبه كقطار مسرع يحمل فوقه روح امرأة ثائرة، قذف بها البحر نحوه ليختلي بها الليل في إحدى زواياه المظلمة.
نظر لها يوسف فلم ير من بين سحابة سيجارته سوى شالِ أحمر رسم أمامه صورة ملونة من بين دخانه الرمادي.
حينها ثار البحر غاضبا من قوة طرق أقدام كانت تقرع أجراس الخوف التي انقلب الموج على أصواتها، وظلت صاحبة الشال الأحمر تهرول مسرعة حتى وصلت إلى نهاية الحاجز.
وقفت شرين فتاة العشرين عاما أمام البحر تثور عيناها بالكثير من الدمعات، وكأنها تعزف لحنَ ذلك الحزن الذي يسكن روحها، وترتشف منه تلك الصفعة التي تلقتها من صديقتها التي لا تزال أثار ندبتها حية إلى الآن، لينزف جرحها مرة أخرى عندما رأتها تقضي شهر العسل مع زوجها.

تعود شرين برأسها إلى الخلف تتمنى أن يسقط أمامها لتركله بعيدا، وترحل معه تلك الذكريات التي تكاد أن تطيح بها.
فتصعد ذكرياتها فوق سفينة الماضي لتعبر بها محيطات حتى تصل بها إلى تلك اللحظات الأخيرة التي كانت تستعد فيها لزفافها هي ومحمود، وطيور الفرح تغرد حولها؛ لتأتي غربان الحزن، وتسرق منها سعادتها.
يعلو صوت الهاتف وكأنه دقات نبضات قلبها حاملا اسمه، فتجيبه وصوتها يرقص على حروفه، لتسقط أحدهما حاملة معها تلك السعادة لتحطمها إلى أشلاء.
تحمل كلمات محمود صوتا منكسرا، عندما يخبرها برحيل حلمهما إلى الأبد فتسقط شرين كورقةِ عصفتها الرياح في ليلة حارة، وتلتصق كلماته بين طيات عقلها لتستمع لصداها يُعاد كلما هدأت ثورته.

تمر الدقائق عليها كأنها ألف عام شاب فيه عمر قلبها الذي ذبل، فتستعيد وعيها
وتبحث بين ذكرياتهما معا على تلك الورقة الممزقة والتي القى بها في وجهها وقضى على سنوات حملت العشق بينهما.
ولكنها سبحت في بحر من المتاهات التي جعلتها في حيرة أكبر فأسرعت تهاتف صديقتها المقربة لتخبرها بتلك الفاجعة التي تعرضت لها، ولتبحث معها عن سبب جعل محمود يلقي بها داخل بئر كما فعل أخوة يوسف به.
استعادت شرين ذكرياتها من محمود عندما القت صديقتها أمل أمامها عُلبة مغلفة بشرائط حمراء، لتنظر داخلها وترى شريط ذكرياتها ممزقا يكسوه الغبار

تسقط أمام ذكرياتها ترجوها أن تعود، فاقتربت منها أمل وجلست جانبها تخبرها بزواج محمود من فتاة أخرى.
استمعت لها شيرين وكأنها أصابت بالصمم فجأة، فأعادت أمل جملتها مرددة سأتزوج أنا ومحمود الأسبوع المقبل
لم تنظر لها شرين فقد شعرت وكأن شاحنة عبرت من فوقها لتمزق ما تبقى منها، شعور قاتل راودها أن تلتقط ذلك السكين من فوق الطاولة وتمزق به تلك الكلمات التي استمعت لها من صديقتها.

سكنت نبضات قلبها وصار الخوف يعتليها كشبحِ يحوم حول ضحيته ليسلب روحها
وبدأ العرق يتصبب من على جبينها كليلة شتاء ممطرة، فابتعدت عنها ونظرات الخزي والألم تتزايد وتزحف داخلها لتحطم أسوارها وتجعلها أشلاء مبعثرة
تلقت شيرين تلك الصفعة من صديقتها وكأنها رسول الحزن والموت معا فقد جاءت تزف إليها نبأ موتها، ورحلت وهي تخطو بقدميها على ذكرياتهما، والقت بها داخل قبر وجعلت الخيانة حارسة عليه.

تفيق شيرين مجددا على صرخة انطلقت من بين صدرها المنشق لتعود لواقعها، ويثور البحر غاضبا من هول ألمها.
في تلك الاثناء كان يوسف مازال جالسا مكانه، وعندما هم بالرحيل اخترق أذنيه صوت صراخات دوت لها السماء غضبا فتذكر ذات الوشاح الأحمر فداعبه
فكره بالذهاب إليها، وخطت قدمه نحو مؤخرة السفينة والصوت يزداد قوة ورهبة، وإذا به يراها تقف فوق الحاجز الحديدي تنظر للبحر بشوقِ وكأن بينهما موعدا، تصلبت قدماه وخُيل له نفسه حين حاول الانتحار منذ عدة أشهر ولكن أبى القدر أن يستجيب له ويحقق أمنيته، ليلقي به للحياة لتمارس لعبته معه

بدأ يوسف في الاقتراب منها ببطء، وقدماه تجراه نحوها بخيفة وكأنه من يقف على الحاجز
وبدأ يناديها بصوت هادئ
وقفت شيرين تصارع الألم داخلها غير شاعرة بشيء فنادى عليها مرة أخرى:
فرفعت رأسها واستدارت لترى يوسف يقف خلفها، ينظر إليها خائفا
التفتت برأسها نحو البحر وبكلماتِ متلعثمة بعثرتها بين بكائها قالت له:

  • ارحل بعيدا ولا تقترب مني
    أجابها في سرعة وصوته مملوء بالحزن:
  • حسنا لن اقترب، ولن اطلب منك أن تتراجعي
    نظرت له شرين مرة أخرى وغيمة من البكاء تكسو عينيها ثم أدارت وجهها مرة أخرى
    فوقف معتدلا وصار يتحدث ببطء
    _ كنتُ اتمنى أن أكون مكانك الآن.
    صمتت قليلا ولم تجبه، ثم أكمل قائلاً:
  • السماء اليوم غاضبة، فالنجوم هاربة وكأنها تختبئ خائفة من الظهور أمامنا
    ألم تلاحظيها؟ وقفت شرين تنظر للأعلى، وقالت له:
  • قد تكون هكذا حقا، وقد تكون علمت أنه لا مكان لها في عالمنا
    كانت كلماتها تحمل حروفا ممزقة تكاد تسقط منها فأكملت حديثها قائلة:
    _ ماذا إن اختفت كل النجوم ولم تظهر مجددا، هل ستقبل السماء رحيلها؟ أم
    ستثور غاضبة لأجلها وتعلن حدادها، وتتوسل للشمس ألا تظهر مجددا سوى بعودتها.
    ابتسم يوسف ساخرا وقال:
    _ لن تتوقف الحياة من أجل أحد، فالحياة أشبه بقطعة الإسفنج تمتص أرواحنا لتتشبع بها وعندما تنتهي تعتصرنا لتلقي بنا في تيه الماضي، وتبحث عن روح جديدة لتتناولها
    وكأن يوسف استعاد ثقته، وبدأ حديثه يسير معها بسهولة وذهب الخوف من داخله.
    حينها التفتت شرين له، بهدوء وقالت:
    _ وماذا تفعل هنا الآن؟
    _ هارب
  • من مَن!
  • من كل شيء حتى أنا
    حينها بدأت تهدأ قليلا وتستمع له، فأعاد عليه السؤال:
  • لماذا أنتِ هنا؟
  • هاربة
  • من مَن!
  • منهما، و أشارت بيديها صوبه
    نظر يوسف جانبه، ثم اعاد نظره إليها قائلا.
  • من تقصدين؟
  • اقصدهما، ثم أشارت نحوه مرة أخرى، فاكملت حديثها قائلة
  • إنهما يطارداني عيناهما تخيفني لا أعلم هل يطلبان مسامحتي أم معاقبتي، هل تستمع
  • إنهما ينظران نحوي ويضحكان عاليا، يريدان إخافتي، ولهذا هربت منهما
    بدأ يوسف يشعر بشيء من الريبة والخوف، ثم قال لها:
  • حسنا فلتأتي معي ونبتعد عنهما قليلا
    ابتسمت شيرين، وقالت له لن يتركاني لن يتركاني
    حينها بسطت يديها على جانبيها كطائر يستعد للطيران والقت بجسدها إلى الخلف لتستسلم لذلك الاعصار الذي جذبها لأسفل لترتطم بالماء وتغوص بحزنها، وألمها لأسفل
    أسرع يوسف ينظر لأسفل لعل الماء قذفها نحو السطح، فيحاول إنفاذها، ولكنه استمع لصوت ضجيجا، التفت خلفه فوجد أحد رجال شرطة السفينة يأتي مسرعا نحوه قائلا:
    _ هل رأيت امرأة عبرت من هنا منذ قليل؟
    فلم يجبه فأكمل الرجل وقال:
  • مطلوب القبض عليها بتهمة قتل رجل وامرأة وجدا مقتولين في غرفتهما منذُ قليل.

إبداعات عائلة اسكرايب

تحدي الملل

نُشر بواسطة اسكرايب للنشر والتوزيع

دار اسكرايب للنشر والتوزيع، دار نشر مصرية، عضو اتحاد الناشرين المصريين، ‏تمتلك اسكرايب خطة نشر ومشاركات في المعارض الدولية والمحلية ترضي الكاتب ‏العربي. تهتم اسكرايب بالترجمات والأدب العالمي، والمحتوى الذي يساعد على تنمية ‏مهارات وقدرات الشباب العربي، من علوم ودراسات متنوعة‎.‎ وقد وصلت المجموعة القصصية "كأنه هو"، للكاتب البحريني "هشام النهَّام"، الصادرة ‏عن دار اسكرايب للنشر والتوزيع، إلى القائمة الطويلة لجائزة الملتقى للقصة القصيرة ‏بالكويت عام 2023‏

تصميم موقع كهذا باستخدام ووردبريس.كوم
ابدأ