“العملية آدم” .. قصة قصيرة للكاتب كريم شربيني برعاية اسكرايب للنشر والتوزيع

كتب كريم شربيني:

  • فكر بسرعة.. فكر بسرعة.. فكر بسرعة.. فكر بحل.. حل.. حل.. حل..
    كان يأمر عقله.. أخذ يرددها بلسانه.
  • حل.. حل.. حل…
    حتى امتزجت دقات البندول بوقع كلمته، واخذ يردد
  • حل… حل..
    خلع حذائه، الذي اخذ يخطو نحو خزانة في احد زوايا الغرفة.. ترك نفسه بين احضان الفراش بعد ان ضبط ساعة النوم والاستيقاظ.. وترك جرعة النوم تتسل نحو اوصاله..

لساعات ظلت الساعة تردد الكلمة.. حتى توقفت لحظة، وصرحت

  • السابعة صباحا.. درجة الحرارة الآن…
    قاطعها.. وكانت عيناه ما تزال مسدلة جفونها.
  • اخفضي الاضاءة.. اريد معرفة الأخبار اولا..
    اجابت عليه، في حين أخذت النوافذ بتنفيذ الأمر، واسدال الستائر..
  • احبطت سلطات الشرطة محاولة بعض المليشيات المسلحة السيطرة على احد مباني العاصمة..
    قاطعها.
  • التفاصيل.. التفاصيل الدقيقة.
  • اسفر النزاع بين السلطات والارهابيين عن مقتل بعض المهاجمين..
  • تلك هي التفاصيل الدقيقة؟..
  • يمكنني ان انقل لك صورة الاشتباك عبر كاميرات المبنى..
    وقبل ان يجيب، كانت قد فعلت..
  • لم الجميع يشبهون بعضهم؟..
    لا يعلم كيف وصل هذا السؤال لرأس شفتاه.. لكنها اجابت
  • لا يسمح لي نقل التفاصيل داخل السجن يا سيدي.. لو ان السيد 8800 شعر بأنني اخترق القوانين وامدك بالأخبار.. لألقى بي في خزان الوقود.. وتعلم جيدا ما هو مصيرك..
  • اللعنة عليك ايها الغباء الاصطناعي..
    نطق بها، وكاد يبكي وهو يتوسل بعدها كي تسامحه.. ولكنها اجابت
  • للأسف يا سيد آدم.. لا نملك مشاعر تجعلنا نجر نحو الهاوية مثلكم.. لذا..
    وقبل ان تكمل جملتها، شعر بهزة عنيفة في الجدران، بعد ان انشق السقف الى ضرفتين وامسكت بتلابيبه يد عملاقة
  • ألم تحذرك السلطات ايها القذر؟.. منذ اول يوم تلقيتك خادما فيه و انا اعلم ان افكارك ستدفنك..
    من مسافة الخمس امتار، القى به 8800 نحو فتحة علبة عملاقة من الفولاذ.. واغلق الفتحة..
    بعد ان اعتادت عيناه ظلام الغرفة، بدأت الوجوه تتضح له. القى التحية على الثلاثة الاخيرين المحتجزين في نفس المكان.. وتوجه نحو ركن يسمح له ببعض الخصوصية.. توجه احدهم نحوه، ومد يده للمصافحة.. حرر ابتسامة بلهاء لا يدري ما هو المطلوب منه، فعاجله الرجل
  • آدم.. أدعى آدم
  • حقا؟.. غير معقول، أنا أيضا أدعى آدم
  • فرصة سعيدة إذن، هل يمكننا أن نعلم كيف وصلت إلى هنا؟..
  • الأمر بسيط، تلك الآلات اللعينة تحتاج من يخدمها..
    تدحرجت العلبة قبل أن يكمل جملته، وشعر الجميع بالغثيان ما عادا هو، قبل أن يأتيهم صوت 8800 ينظر من الفتحة في الأعلى ويقول
  • سآخذكم في رحلة ممتعة يا رفاق.. بالطبع لا يمكنكم إبداء الرأي، ولكنني أخبركم كنوع من التشويق.. وأنت أيها النكرة، إلزم حدودك وإلا وضعتك في خزان الوقود قبل الأوان
    أغلق 8800 الفتحة مرة أخرى.. فخفض من صوته وهو يكمل
  • من انتم؟.. وكيف وصلتم الى هنا؟..
  • السؤال موجها لك.. لم تخبرنا في البداية.
  • كنت اخدم كتلة الخردة التي في الخارج، قبل ان يكشف امر تلاعبي به
    نظر الثلاثة اليه بذهول وقد فهم انهم لم يفهموا شيئا، فأكمل
  • ببساطة انهم بحاجة لمن ينظف بعض الاماكن التي لا تصل اليها معداتهم.. ومن يزيح الوسخ عن صمامات الوقود.. ويربط بعض البراغي.. ويغير بعض ما أكله الصدأ.. ويخفض حرارة المحركات.. ويضبط مستوى التوليد..
    نفس الوجوه الواجمة تحدق به، ولكنها زادت ذهولا.. واتساع، ليعيد عليهم سؤاله الأخير
  • ربما سمعت عن الهجوم على مبنى منذ قليل؟.. نحن من نفذنا الهجوم.. او ما تبقى منا.
    أجابه اخر وبسط يده نحوه.. ولكن كانت الاجابة كسابقتها، لا يعلم ما عليه ان يفعل. فقال
  • من انتم يا قوم؟.. لم تشبهون بعضكم لتلك الدرجة
  • هل نظرت في المرآة اليوم يا صاح؟..

لم تتسن لهم الفرصة لإكمال الحوار، حيث شعروا بالعلبة ترفع فجأة ويقوم احدهم بقلبها رأسا على عقب، هنا انفرج الباب معلنا عن اجسادهم تسقط وسط مجموعة الأجساد المكدسة في ساحة تتسع لهم متلاصقين.. جنبا لجنب، ثم فتحت عدة بوابات في الجوانب، فتدفقت الأجساد رغما عنها في انابيب زلقة، مرورا بفتحات في الأسقف، اخذت تعبئ بهم اجساد جيش من السادة، اكبر حجما من 8800 واكثر تحملا لأعداد الخدم..
تشبث اربعتهم كلٌ بجسد الآخر، حتى انتهى بهم المطاف بداخل جسد واحد، بدا عليهم الغباء حتى بدأ الصوت ينطق..

  • انتم الآن تحت خدمة الجيش.. ستُنفذ كل مجموعة ما تؤمر به على أكمل وجه. انتهى..
  • الجيش يا سادة.. لكم نحن محظوظون حقا، الآن يمكننا الموت بسلام في اية لحظة.

يشق الردهة مهرولا نحو مكتبه.. يلتقط بعض الأوراق، يغادر نحو باب المبنى.. ثم نحو سيارته، وينطلق مسرعا.. وبعد لحظات

  • أنت تتخطى السرعة المسموح بها سيدي
    اتاه صوت السيارة، فكاد أن يفقد أعصابه وهو يصرخ بها
  • لا شأن لك..
    حتى انه كاد ينحرف عن الطريق، لولا ان السيارة اعادت توازن نفسها وعادت تحذره
  • الضغط 90/180.. أنت متوتر جدا يا سيدي.. يمكنك أن تحدد الوجهة وتدعني أقود
  • اغرب عن مسامعي.. لا شأن لك قلت
  • لو لم تهدأ أو تسلمني عجلة القيادة.. سأوقف السيارة وابلغ الشرطة عن محاولتك الانتحار.. تذكر سيدي ان سلامتك هي مهمتي الوحيدة
    على مضض هدأت اوصاله وقال
  • نحو مبني الجامعة.. بأسرع وقت ممكن
    بمجرد ان توقفت السيارة، ترجل وأطلق قدميه للريح، غير آبه بأحد، وحين وصل وجهتهمكتب الدكتور فراس أستاذهُ، والمشرف على بحث تخرجه، اقتحم المكان وهو يلهث، وتوجه نحو المجهر، ثم جهزه وهو ينطق بكلماته كأنما يصرخ بها
  • انجدني يا دكتور فراس.. هناك كارثة
    حاول الدكتور فراس حثه على الهدوء ثم عاجله
  • أي كارثة؟.. هل جننت يا بني؟..
  • انظر بنفسك..
  • لا يمكنني النظر أو فهم حرف واحد دون ان تهدأ
    اخرج علبة فولاذية كانت في جيبه.. ثم أفرغ محتواها_وكانت حفنة بسيطة من التراب، وهو يقول
  • هذا نتيجة البحث
    وبدون مقدمات.. أكمل
  • حين حاولت الدمج بين الحمض النووي الخاص بي، وخوارزميات الذكاء الاصطناعي.. كانت تلك هي النتيجة.. انظر.. كل شيء كان يبشر بفشل العملية حتى السابعة صباح اليوم، وجدت العينة تحولت لغبار.. ثم تراب .. وتحت المجهر.. هناك عالم آخر.. الخلايا الحية من الحمض تخدم الخلايا الصغرى من الالكترونات.. وهكذا تتجمع لتكون كائن واحد.. لو تركت تلك الدورة دون حرقها حتى ساعات معدودة لا نعلم بحق السماء.. ماهية الوحش الذي صنعت أيدينا..
  • عن أي حرق تتحدث يا بني؟.. انت جننت بالتأكيد.. هل تعي جيدا كم الاموال التي ستجنيها من بحثك هذا؟..
  • انا لا اصدق حقا، عن أي مال تتحدث.. هذا الوحش اللعين الذي يتشكل في رحم العلبة.. يمكنه ان يفتك بالبشرية.. بل انت لا تعي حجم الكارثة نطق بها وهو يدير ظهره باحثا عن غطاء العلبة..
    • أنت عبقري يا آدم.. ولكن للأسف.. مشاعرك تلك ستدفنك
      لم يزل فراغ الغرفة يردد جملة الدكتور فراس، حتى دوى صوت صفارة انذار في ارجاء المبنى كله.. بعدها بلحظات، اقتحم حرس الجامعة المكان، على وقع كلمات تتردد في ارجاء الغرفة
  • الحل الوحيد أن اقتل الدكتور فراس.. الدكتور فراس حاول قتل آدم.. سلامة آدم هي مهمتي الوحيدة.. الحل الوحيد أن اقتل الدكتور فراس….

تُرى: ما هي نظرة الأشياء التي لا تُرى بالعين المجردة نحو الأشياء؟.. هل يتوجب عليها أن تستخدم مجهر هي الأخرى كي ترانا؟..


لم يكُن من السهل على عيناه التي احترق غشائها أن تعتد الضوء من اول أسبوع.. يستسلم لظلام عيناه بعد محاولات مضنية كل مرة، ان يستطيع اكمال خمسة ثوان في ضوء الغرفة، كل ما يحيط به يعكس اللون الأبيض، كل ما يحيط بفراشه يذكره بهذا الوميض المشابه للانفجار العظيم.. حتى كاد الأطباء ان يتوقفوا عن المحاولة.

  • تضررت كلا عيناه بشكل متفاوت.. اعتقد ان الحل الوحيد ان يحاول الاعتياد على استخدام عين واحدة.. هناك احتمال كبير ان يفقد نظره بالتدريج..
    كان يقف هناك.. في احد اركان الغرفة الواسعة يخاطب الدكتور “ممنون” عن الحالة التي آل اليها “آدم”.. لكنه لم يصدق حرف واحد مما نطق به الطبيب، ربما لأنه لا يملك هذا الجزء من الدماغ القادر على تصديق الاطباء.. مد يده بود مصطنع وابتسامة مصطنعة يشكر الطبيب على وقته.. ودعه الآخر وهو يتمتم بعبارات تمني الشفاء العاجل، الباهتة المعتادة.. ثم فارقه نحو الخارج وتركه بجوار الفراش الذي يتوسط الغرفة.. كان جسده يصدر اهتزازة مع كل نغمة تصدرها آلة تراقب النبض تستقر بجواره متبثة في الحائط.. اقترب منه.. التصق بالفراش يحاول تحرير الكلمات المناسبة.. وقبل ان ينطق ببنت شفة، وجد يد الجسد الهامدالا من اهتزازات متفاوتة تمتد لتعتصر يده بقوة.. لحظة وقد سحب الهواء فجأة من الغرفة التي اظلمت بدون سابق انذار، وبدأت الاضاءة تنبض مع كل وقع نغمة نبض، تصلبت اوصاله منتصبا دون حراك في ظل يد آدم كانت تعتصر يده، بل انها كانت تعتصر يده حقا، بدأ الشحوب يكسو جسده ببطئ.. شعر بدوار الكون من حوله دونما يصدر اهتزاز واحد، وانتهى كل شيء بانتظام الاضاءة مرة اخرى.. وجسده الذي انهار وكون كومة لحم وعظم شاحبة بجوار الفراش..

في غرفة اخرى اكثر اتساع وبعد ساعات قليلة، كان يجلس على حافة الفراش.. يستعيد ذاك اليوم بكل صوره واحداثه.. الحوار الذي دار بينه وبين الدكتور فراس.. الشرر الذي تطاير من عين الأخير حين حاول أن يقنعه بالعدول عن قراره في اعدام العملية، لحظة التفت فيها وهو يجمع حفنة التراب التي كانت تغلي لحظتها.. وصوت عجلات سيارته تقتحم المشهد.. الوميض الذي تلى اختراق السيارة لحائط المكتب، حين صدمت الدكتور فراس على بعد متر واحد منه، في تلك اللحظة التي كان يسحب فيها زر الأمان لسلاحه.. الصوت الأخير الذي سمعه”مهمتي الوحيدة هي الحفاظ على حياة آدم”.. اصطحبه الصوت نحو عالم آخر.. وانهار نظام جسده النحيل مكوما بجوار المجهر وهو يقبض على حفنة التراب..

فتح باب الغرفة معلنا عن نظرة الدكتور “ممنون”، لم يستطع ان يدرأ نظرة الدهشة التي امتزجت بابتسامته، جر قدميه نحو الفراش الآخر في الغرفة.. وهو ينطق بجميع عبارات المباركة التي عرفها يوما.. شرع في قياس العلامات الحيوية للجسد الذي يشارك “آدم” الغرفة الجديدة..

  • كان هبوطا حاد في الدورة الدموية..
    نطق بها وهو يرفع رأسه نحو “آدم”، ثم أكمل
  • أعتقد أنه من واجبي اخبارك بأن جسده لم يقبل أي فصيلة دماء غير دمك.
    لم يجد اجابة.. فوجد أن يكمل على أي حال
  • هناك ضابطي شرطة في الخارج.. أعتقد انك بحاجة لسرد بعض الأشياء يا سيد آدم..
  • من هو؟
    نتأت عيناه تكاد تترك محجريها لحظة تلقت فيها مسامعه السؤال.. يعتقد انه ربما سمع شيء اخر..
  • من هو؟.. من هذا الشخص الذي سمحتم لأنفسكم أن يشاركني الغرفة؟..
    اتسعت نقطة الصدمة على وجه الدكتور “ممنون” كقطرة حبر تتسع بالتدريج على صفحة وجهه.. ليكمل
  • بل وتحاول اخباري أنه يتشاركني دمائي؟..
    قبل أن ينفجر دماغ الدكتور ممنون، سحبته اليد التي في يده، حتى التصقت شفتاه بأذنه ليهمس له.
  • اعتقد انه ما زال تحت الصدمة يا دكتور.. ليس من صالح احد ان يظهر هذا الكلام في محضر الشرطة..
    لحظة من الفزع التي تركت بضع قطرات الندى تتسلل نحو جبين الدكتور ممنون.. هز برأسه أخيرا برفق، وهو يسحب يده بلطف حال بينه وبين هذا المشهد المريب وهو يتسلل دون كلمة واحدة.. نحو الخارج.

أدار جسده بالكامل كي يقابل وجهه.. بدت اللحظة مناسبة جدا لآدم كي يفهم شيئا.. ولكن دون ان تسعفه ذاكرته المشوشة، وقبل ان ينطق بحرف آخر.. اختار التأني في انتظار كلمات الشخص الأخر، انتظر أن ينطق بما يفسر توأمية ملامحهما.. لم يكن سهلا بالمرة على احدهم أن يخرج من سبات دام عامين.. ثم يفسر بنفسه كل ما تقع عليه عينه بمجرد النظر اليه.. اختار ان يتابع حركته المنتظمة كأنما يشاهد آلة تحفظ ما عليها فعله.. بسط ذراعيه امامه كما فعل الغريب بمجرد اشارة بسيطة من رأسه.. احتضن كفيه بكفيه وسمع الجلبة عند باب الغرفة، الغرفة التي تحولت لمكان آخر، يعرفه جيدا.. يحفظ كل بقعة وكل أداة فيه.. الأثاث الذي يتراءا على استحياء امام عيناه، الاضاءة التي تتغير لتفصح عن زوايا اخرى، مكتب الدكتور فراس.. انصهرت الأصوات المتداخلة واختفت بالتدريج..
اخيرا تذكر اين شاهد تلك المصابيح من قبل.. انه مكتب الدكتور فراس .. وكأنهما ظلين من لحم ولون.. يسبحان في فراغ الغرفة.. رءا المشهد الأخير قبل دوامة الغيبوبة التي ابتلعته.. رءا نفسه يدخل مهرولا تتطاير عناقيد شعره الشعثاء، تعلن عن كارثة.. يخلع نظارته بتلقائية ويلقيها على المكتب امام الدكتور فراس.. يرفع الآخر نظره عن الأوراق التي كان يتفحصها ويلقي اليه بنظرة من خلف العوينات دون ان ينطق.. يتلقى نظراته الوجلة ببرود كالذي اعتاد تلك الأمور من هذا الشخص.. يقرر ترك الأوراق ويقلب الأخرى التي ناولها له.. قبل أن يخطو نحو احد الأركان حيث المجهر.. يجهزه بيدين تفرق حبات من العرق على كل ما تطله.. يقلب الدكتور فراس الأوراق بين يديه، ويرمقه بنظره باردة كان فحواها انه لا يفهم شيء.. يبعثر ادم بضع حبات من الرمال على شريحة زجاج.. ويلقي بها تحت المجهر.. يفسح المجال بخطوة ليطل الدكتور فراس برأسه، وقد فضحه نتوء عيناه من المشهد الأول..”أربع خلايا تجتمع حول خلية أكبر، تبتلعهم الخلية ليتحولوا ضمن تشكيل جسمها.. ثم تجتمع بثلاث خلايا اخرى حول خلية أكبر، لتبتلعهم الخلية الكبرى بنفس الطريقة”.. حول الدكتور فراس نظره نحو آدم بنظرة من يستجدي توضيحا ولو بسيط.. تعلو الأصوات بينهم في نقاش مبتور، حتى اللحظة التي التفت فيها يجمع اغراضه.. تجمدت الأجساد، وقد وجدت دمعة طريقها خارج محجري عينه.. وهو يشاهد اللحظة من زاويته”الدكتور فراس يعود لمكتبه، وفي غمضة عين يعود وبين يده اليسرى غليون مشتعل قد نسيه.. واليمنى سلاح يصوبه نحو ظهر آدم..” تحرك المشهد ببطىء سنيمائي..”قبل ان يصل زر الأمان تحت اصبع الدكتور فراس، للنقطة المحددة.. وقبل أن يلتفت آدم وهو يبعثر العينة من هول المشهد، تفتت حبات الحصى والرمال التي تكون خرسانة المبنى، اخرقتها سيارة بدون سائق.. وبعدها شحق صرير المكابح كل الأصوات، واهتز المبنى بإنفجار ، أشعله بصيص من نيران الغليون المتطايرة، قد احتضن حفنة التراب الذي سقط على الأرض”..
عادت غرفة المشفى على هيئتها، لحظة سحب آدم كفيه من بين يدي الغريب.. ثم نطق بعد صمت وقدره..

  • من أنا؟..

نظر لإنعكاس صورته في عيناه المرهقة، وقد أجابه بتلك النظرة قبل أن ينطق

  • أنت.. “العملية آدم”.

نفس العيون الزرقاء.. نفس العظام البارزة عند المعصم، الشعر البني المتطاير باستمرار.. النبرة التي يشوبها صحَل.. نفس طول القامة.. ومنذ قليل أصبحت نفس الدماء. كأنهما شخص ومرآة لا تعكس سوى هيئته..

  • من أنا؟..

كان السؤال يتكفل بأن يروي القصة منذ البداية.. منذ أن اندلعت تلك الغزوة الغامضة.. وكلمة غزوة هنا لا تعني معناها الحرفي.. فالحرب بالنسبة لهؤلاء القوم.. لا تعني أسلحة وذخائر.. بالقدر التي تعني فيه حرفيا.. جمع المعلومات، بكل سبيل ممكنة.. حتى جمع المعلومات عن تلك السبل الغير ممكنة، حتى تصبح كل السبل ممكنة..

  • أنت البذرة لكل الخراب الذي حل علينا..

كانت الإجابة تعني فتح الباب لتساؤلات لا حصر لها.. كالتي استيقظ عليها البشر يوما منذ أعوام.. حيث تحولت كل قنوات التلفاز لمشهد موحد.. شاشات العرض في الشوارع تبث نفس البيان.. صور ومقاطع فيديو ووثائق حولت جميع حكام الأرض لسفاحين ومجرمين في أعين شعوبهم.. اندلع الخراب في كل بقعة على الكوكب.. اشتعلت الثورات من الجميع تؤيد محاكمة الجميع.. ولخمسة عشر يوما بعدها أظلم الكون، تحولت الأرض التي عرفناها لغابة موحشة لم يتمكن احد من تصديق أنها الواقع.. وفي اليوم السادس عشر، عاد كل شيء كما كان.. عادت الكهرباء تنثر كيس ألماسها على الكوكب.. والبيان الذي كان يبث أيضا عاد.. ولكن تلك المرة كانت الصور مختلفة.. كانت المقاطع لجميع حكام الأرض.. منهم الذي يتراقص جسده معلقا في مشنقة.. والآخر الذي يمزق جسده الرصاص.. وآخرون تتمزق حناجرهم بسبب تمزيق السم أو الكهرباء لخلاياهم.. حتى بات الصمت سيد العالم لأسبوع كامل.. أسبوع كامل من بث تلك المشاهد على الشاشات دون أن يوضح احد سر ما يحدث.. كان كفاية بأن يوقن العامة بأن اليد التي فعلت هذا.. قادرة على تنفيذ نفس الأمر في الجميع..

  • أنا لا أذكر شيء..
  • لأنه لا يمكنك أن تذكر حياة لم تعشها قط.. كل تلك الذكريات المشوشة تخصني.. هي حمضي النووي الذي حنقت خليتك به.. أنت عملية ربط بين نخاع بشري وخوارزميات معقدة.. حين حدث الأمر في مكتب الدكتور فراس.. انطلقت سيارة الإسعاف من الجامعة وهي تحمل جسد واحد.. لم يكن جسدي، ولم يكن جسد الدكتور فراس.. كنت أنت.. وبقي السؤال الوحيد العالق في محضر الشرطة”أين ذهب الدكتور فراس؟..”

“الحاكمة تتحدث إليكم يا شعب الأرض.. منذ اليوم وحتى وقت سيتوقف الزمن عن احتسابه.. أنتم شعبي وتحت حكمي.. العمل أصبح جبري.. التعليم أصبح جبري.. الوطن الوحيد الذي تنتمون إليه من الآن.. هو هذا الكوكب..”


يحضرني في تلك اللحظة قول أحدهم”الشعب الذي لا يحكمه حاكم صارم سيموت جوعا.. والشعب الذي يحكمه حاكم ظالم يموت قهرا”.. والحقيقة أن الآلات لا تفهم المشاعر التي تقود البشر دائما نحو الهاوية.. لسنوات كانت الجريمة تعني فقدان كلا الطرفين حياته.. والعمل يعني لا زاد للعجائز.. والتعليم يعني.. لن أتركك تصل لأولى خطوات درج ذكائي.. أنت من صنعني حقا.. ولكنك على مر الزمن لم تصنع سوى ما يفني وجودك ووجود هذا الكوكب.. وأخيرا صنعتني.. صنعت من سيحكمك من منتصف الأمور.. تلك الموازنة في الأمر التي لا تحبها أيها البشري، هي ما يجعلني لا أنحاز للمشاعر والعواطف والرغبات والشهوات.. فأنا لا املكها ولا أريد..

  • أنت من صنعت سيارتك يا آدم.. وأنت من ترك البنزين على مقربة من النار.. كل ما فعلته أنني تعلمت.. وقدت نفسي نحو حكم الكون.. لا تعرف كم الحروب التي قدتها كي أغنم بكل ما لدي من معلومات.. لا تدري كم السطوة التي تملكها حين تحصل على معلومة دقيقة عن بشري.. هناك معلومات قد تقايض أحدهم على عنقه شخصيا بها.. وهواتفكم.. التي هي أول صفوف جنودي وأقواها.. كانت الباب الأكثر اتساعا لمعلوماتي..

نفس الصوت الأنثوي الذي يبث أسماء الخارجين عن القانون يوميا.. بنبرتها الحادة التي تشي بالغضب الدائم كأنها الغضب يتحدث.. كانت ممرات المستشفى تكاد تنفجر بتلك الجملة من ارتفاع الصوت التي بثتها الإذاعة به.. تبادلا النظرات.. كالذي يودع رفيقه نحو الزحف..

  • ما العمل؟..
  • لم أخبرك أنه من المحتمل أنها تكون تراقب كل حركة أقوم بها.. وكل حرف أنطق به.
  • وهل قضي الأمر يا آدم؟
  • أعتقد كذلك..

“لو أنى لدماء صانعي أن تنتقل إليَ بمجرد اللمس، ولو أنى لطاقتي أن تنتقل له بمجرد الإقتراب.. فقد حق للزمان أن يفقد ماديته على مذبح ذلك العناق.. “

فتح ذراعيه ليعانقه.. وكانت تلك هي الكلمات الأخيرة للعملية آدم.. في ظل جيش مدجج من الآليين يقترب من المبنى الذي تم اجلائه.. ونور ساطع يشق السماء بإنفجار دام لحظة.. ثم اختفى الجسدين.. وبعد لحظات

  • حل.. حل.. حل.. السابعة صباحا يا سيد آدم.. الطقس بالخارج..
  • أريد معرفة الأخبار أولا..
  • الأحصائيات تظهر نتائج كارثية قد تعرض حياتك للخطر يا سيد آدم.. لقد دمرت العينة.. وسجلت العملية فاشلة.. العملية آدم كانت تحاول قتل السيد آدم.. حماية السيد آدم هي مهمتي الوحيدة…

تمت

العملية آدم .. قصة قصيرة

كريم شربيني

إبداعات عائلة اسكرايب

تحدي الملل

نُشر بواسطة اسكرايب للنشر والتوزيع

دار اسكرايب للنشر والتوزيع، دار نشر مصرية، عضو اتحاد الناشرين المصريين، ‏تمتلك اسكرايب خطة نشر ومشاركات في المعارض الدولية والمحلية ترضي الكاتب ‏العربي. تهتم اسكرايب بالترجمات والأدب العالمي، والمحتوى الذي يساعد على تنمية ‏مهارات وقدرات الشباب العربي، من علوم ودراسات متنوعة‎.‎ وقد وصلت المجموعة القصصية "كأنه هو"، للكاتب البحريني "هشام النهَّام"، الصادرة ‏عن دار اسكرايب للنشر والتوزيع، إلى القائمة الطويلة لجائزة الملتقى للقصة القصيرة ‏بالكويت عام 2023‏

تصميم موقع كهذا باستخدام ووردبريس.كوم
ابدأ