“لقاء فوق العادة” .. مع أميرة إسماعيل وتحدي الملل

كتبت أميرة إسماعيل “إيمي إسماعيل”:

كان هبوط تلك الطائرة هو الأكثر قلقاً بين رجال مراقبة البرج، فقد انحرفت عن مسارها بعد أن توقف أحد المحركات مما جعل القائد يعاني من التحكم بها؛ مطباتٍ هوائية وقفزات بهلوانية تعانيها الطائرة وفي نفس الوقت يعاني الركاب من القلق والتوتر فحياتهم على وشك الذهاب بلا عودة.
رغم توتر الجميع إلا أن توتر تلك الصغيرة التي لم تكد تتخطي العشرون ربيعاً بسويعات ذات البشرة البيضاء والشعر الأسود الناعم القصير والجسد المتوسط الممشوق هو الأكثر خوفاً من السقوط والتحطم، صراخها يكاد يصم الأذان وهي تتفوه بما لذ وطاب من السباب المحنكة بقلقها العفوي؛ جعلت الجميع يصاب بالصدمة وهي تصرخ بكلماتها الناقمة: منك لله يا كومي، الطائرة ستحترق ولم تحضر لي الهدية…


ليقف الجميع لها فاغر الفاه فهم على وشك فقدان حياتهم وهي في ماذا تفكر، انطلقت تعيد الصراخ عندما اصطدمت الطائرة بسطح الأرض وهي تتمتم: ذهبت زهرة شبابك يا شيرين، وعلى يد الكومي، ولم تتهني بعيد ميلادك…
توقفت عن الصراخ عندما استقرت العجلات ساكنة وتَبّهُل الركاب للنجاة بينما هي كانت كلمتها الفاصلة تزامناً مع سقوطها بالوعي غائبة: متنا والحمد لله.
خرج القبطان الشاب من المقصورة بعد أن سمع نداء المضيفة بجزع وتوتر: مات شخص من الركاب يا قبطان.
كانت خطواته أشبه بالركض وهو يتبع المضيفة وكل الأنظار تصاحبه بترقب، لتفرغ الأفواه وهو ينطق بعصبية عندما عرف هويتةُ: منك لله يا شرين، ألم تجدِ غير طائرتي وتموتِ بها…
اقترب منها محاولاً إنقاذها وهو يكاد يبكي: أفيقي بالله عليكِ … لن يدخلوني المنزل اليوم، والمرتب طار!
ليطمئن قلبه عندما وجدها فاقدة الوعي فقط منح الإشارة لطاقم الطائرة بتنفيذ إجراءات الخروج، ليقترب منه مساعده وهو يسأله بخوف: الركاب نزلت ولم يتبقَ غير هذه الآنسة التي توفيت! ماذا سنفعل؟
نظر له وهو يشفق على حاله ليقل بحزن: ظهري سينكسر يا فادي… ليصمت ويعيد القول ببكاء: سأطرد إذا لم أذهب بها إلى المنزل.. أبي وجدي سيعلقونني علي باب البيت لو ماتت وأيضاً في رحلتي.


تركه وغادر ليحملها على كتفه بسهولة نظراً لقوة جسده العضلية وتكوينه المشدود بعد أن فقد الأمل في استيقاظها، رأسها للخلف وقدمها للأمام، لتكون رحلته من الطائرة لسيارته التي ركنت بالجراج شاقة وهو يتأفف، وضعها علي المقعد ليحدثها بحقد: هل انتِ قادمة من الخارج لتموتِ في طائرتي…. منك لله يا …..جدك سيقتلني.
ليقود السيارة متوغلا طرق المدينة فتوقف عن إشارة المرور ليلمح بائع الذرة يركض باتجاهه، لتجحظ عيناه الخضراء وهو ينظر لها: يا نهار أسود ذرة، جالك الموت يا تارك الصلاة!
تململت بحركتها بعد أن تنشقت رائحة الذرة الساخن لتقفز من مقعدها وهي تمسك بمعصمه برحاء: أريد ذرة يا مكاوي، نفسي به…


لينظر لها وللبائع الذي لن يكفيه العربة وما بها رافعاً الزجاج بسرعة وينطلق بمجرد فتح الإشارة، وهو يصمتها بحديثه: لا يوجد ذرة يا ماما إلا عندما تتوقفِ عن مناداتي هكذا، …
لتلتفت وتنظر إلى الشارع والمحلات لتلمح بائع الاسماك المملحة، لتصدمه بصوتها: رنجة أريد رنجة يا ميكي… ليزيد من سرعته من الغيظ ويضغط علي المقود، نظرت لوجه الطولي وشعره البني وهي تزم شفتيها وشهقة البكاء تشتعل ليعود بالسيارة سريعا ليشتريه لها نظر لها سريعاً وعاد للطريق وهو يقول لها ساخراً: الست الوالدة ستطردنا ومعها الست الحاجة وأنا مفلس… لينظر لتك الحقيبة مغتاظاً: بسبب هذه الرنجة، ادعوا الله ان لا تتوحمي عليها.


ضحكت ملء شدقيها وهي تحدثه فقد أتت بالمعجزة: سأبيت عند عمي.
نظر لها ثم ضحك بقوة وهو يخبرها أن زوجة عمها ستطردها أيضا: هيا بالله عليكِ، أمي وترضى بدخولها، هذا يوم المُنى،، كنت سأوزع جنية صدقة،… إنها ستطردني بسببك يا بلية الزمن…
نظرت له وزمت شفتيها بحزن: تطردك لما……
انتفخت وجنتيه وهو يحذرها: أنا لو أعرف لما، سأرتاح… أنا ابنها وترميني بالخارج عندما تراني … ليبكي وهو يزيد: لا أستطيع أن أهنأ بالمرتب، أول ما يقبض تصادره لكي تنهي شقة الهنا،… ضيق عينيه وهو يسألها: ماذا فعلتِ بها، أصبحت تطاردني كثيراً؟!


وصلت السيارة للمنزل فتوقف الحديث وهم يدلفون من باب الطابق الأول حيث شقة الجد فتجري الفتاة له لتحتضنه بينما يتلقى سباباً من والده وهو يوبخه: إنا أهاتفك منذُ الصباح لما لا ترد يا متخلف.
وابتعد مسرعاً حين تذكر أنه قادم ولم يغتسل فصرخ به بحدة: لما لم تنظف نفسك يا غبي….
ليخفض رأسه وهو يلتفت صاعداً للطابق الأعلى قائلاً بخنوع: حاضر سأستحم. … وأكمل في سره: لماذا يا الله اخترت أبي بوسواس النظافة.
ليوقفه صوت جده وهو يخبره بصوت قوي : جهز نفسك بعد الغد حفل زفافك.


تسمر مكانه وهو يلتفت لشرين التي تبتسم بقناعة وخجل: لن أتزوج قبل أن أحصل على هدية عيد ميلادي.
ليسقط صريعاً وهو يردد كببغاء: لقد دبست، وسيتم طردي والحمد لله.
استيقظ من النوم وهو يحدق لمن حوله الذين ينتظرونه بقلق حتى يفيق، لتحتضنه يد والدته لتطمئن علبه: ما بك يا صغيري.
لينظر لها ويطمئنها: أنا بخير يا أمي… ليجد شيرين تندفع له وهي تتعلق برقبته: كيف حالك يا مكاوي؟
دفعها بعيداً وهو يخنق رقبتها بغيظ: شيرين توقفِ عن اغاظتي أنت تعرفين عدم تحملي لهذا الاسم…
لتضحك وهي تمسك وجنته وتقول بغنج: لما فقط يا ابن عمي…. وفجأة دفعته من صدره بعد أن غضبت: لما وقعت من طولك يا مكاوي ألا تريد الزواج!


انطلقت عيناه من محجرها وهو يقفز يمسك بيدها بخوف: ليس هكذا …
توقفت ونظرت له وهو يبتلع ريقه لما هو قادم: فقط أنت لا تتوقفين عن الأكل؛ والراتب لن يكفينا.
انطلق راكضاً وهي تركض خلفه حاملةً السكين في شقة جدهما والجميع يراقبهما بدهشة: أنا مفجوعة، أيها المفجوع…. أنا …أنا… ألا تلاحظ جسدك وجسدي!
ليخرج رأسه من خلف والدها وهو يتمتم ببلاهة: هذا ما يقلقني…. أن تأكليني ولن يظهر ذلك.
سقط السكين من يدها وجلست متربعة وهي تلطم: لم أظن أن هذه النهاية، عشرة عمر، يأخذني لحم ويرميني عظم… لم يكن يومك يا شرين..


لتنظر لجدها وهو يراقبهم بسخط: فلتجلس بحواري يا جدي وترى حفيدك ما يفعل… ترك لي الأولاد وهرب …
رفع الجد عصاه الآبنوسية وهو يتجه لها لتنطلق راكضة لتختبئ خلف خطيبها الفارع الطول لتنزل العصا تصيب الأثنين ليركضوا وهو يوبخهم: أخذكم الله يا بلايا الزمن.

تمت ..

إبداعات عائلة اسكرايب

تحدي الملل

نُشر بواسطة اسكرايب للنشر والتوزيع

دار اسكرايب للنشر والتوزيع، دار نشر مصرية، عضو اتحاد الناشرين المصريين، ‏تمتلك اسكرايب خطة نشر ومشاركات في المعارض الدولية والمحلية ترضي الكاتب ‏العربي. تهتم اسكرايب بالترجمات والأدب العالمي، والمحتوى الذي يساعد على تنمية ‏مهارات وقدرات الشباب العربي، من علوم ودراسات متنوعة‎.‎ وقد وصلت المجموعة القصصية "كأنه هو"، للكاتب البحريني "هشام النهَّام"، الصادرة ‏عن دار اسكرايب للنشر والتوزيع، إلى القائمة الطويلة لجائزة الملتقى للقصة القصيرة ‏بالكويت عام 2023‏

تصميم موقع كهذا باستخدام ووردبريس.كوم
ابدأ