“عضة كلب” .. رومانسية يوسف حسين مع تحدي الملل!!

كتب يوسف حسين:

لم تعد عقارب الساعة تشير إلى شيء؛ كل الأوقات أصبحت متشابهة كأعواد الثقاب؛ لا يميز عود عن آخر إلا الانطفاء؛ كذلك عائلة( محمود)، كانت تشبه الأعواد كثيرًا، فلقد انطفأت جميعها، وبقي هو مشتعلا بوحدته، ينتظر دوره كي تدهسه أقدام النسيان؛ بعد موت أحب الناس إلى قلبه (زوجته)، لحاقًا بأبويه؛ لقد ازداد هذا الشعور لديه، خصوصًا في تلك الأيام المنكوبة، يحاول أن يغري النوم ليلًا ليأتيه طواعية كوسيلة للهرب من ملاحقة عقله المتخم بالذكريات؛ تلك التي تنتظره بالهموم كامرأة ثرثارة عندما يعود من عمله مساءً، تظل تطارده حتى الصباح، كلما غفت عيناه أحس بيدين تربتان كتفه فيفز مفزوعًا من نومه، يبكي بحرقة كطفل فقد أمه، ثم لا يزال يستعيد شريط ماضيه، إلا أن ينتهي به المطاف صارخًا باسمها، متوسلًا إليها:
-أميرة.. أميرة لا تتركيني وحيدًا، خذيني معك، لا أطيق العيش بدونك، كيف أستطعت أن تفارقيني كل هذه المدة!، أنت التي لا تستطيعين النوم إلا بين أحضاني..؟!

أصبحت يقظته كارثية ونومه معجزة، لم تعد زقزقة العصافير في كل صباح تغزو أذنيه ولا شيء يغزوها سوى أصوات الراحلين؛ لكن هذا الصباح كان مختلفًا وكأن الأحياء أخيرًا انتفضوا لوحدته، لتلتقط أذناه أصوات نواح النساء من جيرانه وصراخ أطفالهن، ثم صوت عربة الإسعاف الذي اخترق النهنهات.
جر جسده من الفراش ليلقي نظرة على ما يحدث بوقت نعاسه، فإذا بالحشود تركض كالفارين من الموت، تساؤلاته للراكضين لم تجدِ نفعا وبين فينة وأخرى كانت أذناه تسترق السمع لأصوات تتلحف الخوف:
-المبنى سيوضع تحت الرقابة كاملا لمدة أسبوعين على الأقل ولا خروج طوال اليوم..

هنا علم أن الزائر غير المرحب به على الإطلاق قطن بجسد أحد ساكني المبنى والآن قد حان دور جسده ليصبح سجين منزله بعد اعتقال عقله واحتلال الماضي لكل جوارحه؛ لم يمهل حاله التفكير ولم يلبِّ نداء الطبيعة حين الاستيقاظ ولم يبالِ بالشمع الأصفر الذي ملأ عينيه؛ ركض بمنامته حافي القدمين بين الحشود، محدثًا نفسه بقلق بالغ:
-إن وقع وتم الحجر الصحي سأموت كمدا لا مرضا؛ للجدار مشانق غليظة لا أتحملها.
ضغط رأسه بقوة بعد وصوله مكتبه الصغير الذي أصبح طوق نجاة له، بعد تلك الكارثة؛ استند برأسه على المقعد وأطلق لعينيه العنان مخترقًا بعقله السقف؛ حامدًا ربه:
-الحمد لله أن لي مأوًى آخر بعيدًا عن الوباء..
أنفاسه أطلقت تنهدات عميقة، ولسانه واصل سباب هذا اللا مرئي؛ بينما استغاثات وتساؤلات زفرتها أعماقه خارجًا:

-لعنة الله على الكورونا؛ حروبا كثيرة ومحتلين لم يستطيعوا سجن رجل واحد بعقر داره!، فأي ذنب نحن ارتكبناه ليصبح وضعنا هكذا..! يالله عفوك فقد ضاق بنا الحال.

  • آن الأوان لأصالح ذاتي، فلا مجال للحروب الذاتية والكون على وشك الانهيار.
    تجرد من أفكاره البائسة وكذلك هندامه لينال سلاما مؤقتا أسفل المياه علها تزيل الضجيج العالق به، مع تشنجاته ليهنأ بعدها بقليل من النوم.
    حسنا الأمر لم يكن بهذا السوء، فقد خرج بسلام وها هو مليئ المعدة وينام بكذبة قرير العين؛ ويا ليت كان الصمم نصيبه حتى لا يقلقه صرصور هارب من زوجته أو بعض القوارض التي تتشاجر على ملك القبيلة ليصل به الحال بتقلبه على مضجعه كتقلب الأيل على الجمر فقط لسماع نباح الكلاب.
    إنه على أعتاب الاستيقاظ بمنبه مزعج؛ نباح متصل لا يكل ولا يمل، لا يعلم أن الكلاب أيضًا مشتعلة بالوحدة كحاله – على الرغم أنهم قبائل؛ إلا أنهم لم يعتادوا خلو الشوارع من الناس؛ كم هي وفية تلك الأرواح ولكن البشر لا يعلمون..!
    رمى الغطاء صارخا بشرفته عله ينجح بفض إزعاجهم الجماعي، ليقضي ليله يشرد صفوف النمل حتى الصباح ليحصل على موتته الصغرى، بعد صراخ دام طويلًا عاد للداخل عله يجد سلاحًا يرعبهم فيولوا هاربين، لقفت يداه قطعة رخامٍ كانت تستند على الجدار؛ ربما هي الأخرى تشعر بالوحدة مثله بعد استخدام نوعها في زخرفة المنزل، حملها وهرول نحو الشرفة الخارجية، عل تهشمها بجانبهم يفزعهم ويكفوا عن الإزعاج، رفع يده عاليًا؛ لكنها توقفت في الهواء حين لمحت عيناه مشهدًا مخالفًا بين مجموعة الكلاب، ثنائي منفرد أسفل شرفته يبدوان كأنهما زوجان؛ بينهما خلاف، كلما اقترب الذكر من الأنثى معتذرًا، ابعدت رأسها عنه، ثم سلمت له ظهرها، ليعاود الكرة من جديد ويلتف حولها، فتهز ذيلها- أي ابتعد-.
    وكأن الذكريات الأليمة أقسمت ألا تجعله يهنأ بحاضره؛ تذكر زوجته قبل وفاتها بيومين وهو يحاول الاعتذار لها عما بدر منه في حقها فكانت تأبى، ثم أخذت إحدى السيارات روحها قبل أن تسامحه، سقطت الدموع بغزارة من عينيه وانسابت أعصابه فوقع الحجر من يده على رأس أنثى الكلب، فازداد صراخها؛ بينما ذكرها يقفز رعبا، رافعا قائميه الأماميين عاليًا كحصان أصيل؛ ثم ينظر إلى زوجته بعينين كستهما الحمرة.
    حين أفاق محمود من شروده اتسعت عيناه عندما رأى الدم ينزف من رأس الكلبة بغزارة وصوت أنثوي يصرخ بهستيرية؛ يأتي من الشرفة التي تعلوه:
  • اللعنة؛ ماذا فعلت؟، أنت بلا رحمة، أسرع في مساعدته وإلا أبلغت عنك حقوق الحيوان.
    -حقوق حيوان وماذا عن حقوق الإنسان المنتهكة من يردها..؟!

كاد أن يجيبها أو ظن كذلك، لكنها في الحقيقة ملت من صمت مبهم الملامح، لتخاطر بنفسها وتحمل الكلب بشجاعة بين يديها، لا يعلم هو أيضا كيف أفاق من صدمته وشاركها خرق القواعد وأصبح خلفها ظلا تابعًا، خطوة بخطوة حتى ردهة شقتها، ليصبح مساعد طبيب بيطري؛ تشير له فيجلب ما تريد دون تردد وكأنه قاطن المنزل لا هي، لينتهي العمل سريعا محتضنا الكلبة ليعيدها إلى ذكرها، ولكن الثأر لا يُترك وإن كان صاحبه حيوانًا، ليصرخ بألمٍ وأنياب الكلبة تنشب بذقنه، وكأنها ترد له ما فعل وإن كان بلا عمد!؛ ثم قفزت من يده وركضت نحو الخارج، بينما هو ظل ممسكًا بوجهه يصرخ بتأوه، لحظة واحدة كانت الفارق بينه وبين مشهد الكلبة وزوجها لينال البطولة أخيرًا..

ركضت الطبيبة بتوتر بالغ وجذبت له مقعدًا، ثم نزعت يده عن وجهه، كي تداوى إصابته هوينة هوينة، لا يعي هل أعطته مخدرًا لكي لا يتألم أم أن وعيه أراد الانفصال، فقط صوتها الذى تحول من صاخب لهادئ ما كان يجبره على الاستيقاظ:

-لا تفزع لم يصب فكك؛ مجرد عضة طفيفة، لن يطول علاجك أكثر من أربعة عشر يومًا، لكن لا بد من المواظبة على التطعيمات؛ كي لا يصيبك السعار؛ هل لديك من يعتني بك؟

صمت مطبق ثقيل نام على شفتيه، فتابعت هي بعفوية:

-أسأل فقط لأعلم هل سأعد لك مشروبًا يخفف من إصابة جسدك بدرجة حرارة قد تصل للحمى.
تنحنح ناهضًا ليؤكد بقاءه بمكتبه؛ ونفسه تسخر منه بشدة:

-من أنت ؟

تمت بحمد الله

عضة_كلب

تحدي_الملل

….

نُشر بواسطة اسكرايب للنشر والتوزيع

دار اسكرايب للنشر والتوزيع، دار نشر مصرية، عضو اتحاد الناشرين المصريين، ‏تمتلك اسكرايب خطة نشر ومشاركات في المعارض الدولية والمحلية ترضي الكاتب ‏العربي. تهتم اسكرايب بالترجمات والأدب العالمي، والمحتوى الذي يساعد على تنمية ‏مهارات وقدرات الشباب العربي، من علوم ودراسات متنوعة‎.‎ وقد وصلت المجموعة القصصية "كأنه هو"، للكاتب البحريني "هشام النهَّام"، الصادرة ‏عن دار اسكرايب للنشر والتوزيع، إلى القائمة الطويلة لجائزة الملتقى للقصة القصيرة ‏بالكويت عام 2023‏

تصميم موقع كهذا باستخدام ووردبريس.كوم
ابدأ